الخلوة والعزلة ضرورية للعلماء والمفكرين أ. د. محمد طاقة

الخلوة والعزلة ضرورية للعلماء والمفكرين


            أ. د. محمد طاقة


يقول الكاتب العالمي الروسي الشهير دوستو فسكي ( سيصل العالم الى زمن يمنع فيه الاذكياء من التفكير حتى لا يسيؤا الى الحمقى ) .

هذه المقولة دعتني ان أتطرق في هذه المقالة عن العزلة والخلوة واهميتها بالنسبة للانسان .

العزلة تمثل افضل حل للانسان ، كونها تمثل وقفة اعتراف ومراجعة الحسابات مع الذات حيث لا يجوز الكذب والخداع والتزييف مع النفس ، وتكون وقفة جادة وصادقة تماماً فالكثير منا يتحدث مع نفسه اكثر بكثير من ان يتكلم بصوت مسموع ، ويكون حديثه مع نفسه صادقاً تماماً وحقيقياً بعيد كل البعد عن التزييف والكذب لانك لا يمكن لك ان تكذب على نفسك .

فالعزلة لا تعني اننا سنعتكف ونبتعد عن الناس ، فالعزلة المطلقة غير محببة ومرفوضة بالنسبة لنا ، بينما ما نقصده بالعزلة بهدف التأمل والتفكير السليم ، وهذا لا يمنعنا من مخالطة الناس دون ان يأثروا على مشاعرنا ، فهي فرصة لاعادة النظر بكل شيء في الحياة والبحث عن حقيقة ما يدور من حولنا حتى نقف على مشاكلنا كأشخاص أو كمجتمع ، بعيداً عن ضجيج الناس والمجتمع ، فهي فترة ضرورية للانسان ، لان بالبعد عن الضجيج نمتلك راحتنا النفسية ، فهي تمثل صفاء الذهن والتفكير وتعزز الالهام ، لذا يتوجب علينا استغلال هذه الخلوة أو العزلة من أجل العمل على تنوير واصلاح المجتمع والذات ، وذلك من خلال الكتابة الجادة وتقديم المقترحات وتعزيز الابداع الفكري لانها تمنحك الشعور بالحرية من اي قيود .

الخلوة مع النفس أو العزلة هي ليست انسحاباً أو هروباً من الحياة الاجتماعية بل على العكس يجب العمل على توظيفها لخدمة الاخرين والمجتمع ، لان الانسان يبدع عندما يبتعد عن ضجيج المجتمع ومشاكله ، ويختلي من اجل خدمة المجتمع ويعمل على تنويره .

ان جميع البشر بحاجة الى استقطاع بعضا من وقتهم لينفردوا مع انفسهم و يحاسبوها ويحاوروا انفسهم حول مآسي الحياة التي تعيشها البشرية جمعاء والامة العربية وعلى وجه الخصوص العراق بلدنا الحبيب ، لان ما جرى ويجري منذ عام (٢٠٠٣) في العراق شيء لا يصدقه العقل من تدمير شامل لجميع اسس الحياة من بنى ارتكازية تقنية وبنى ارتكازية اجتماعية ، والاخطر من ذلك كله هو تدمير النسيج العقائدي والاجتماعي بحيث أُنشأ جيلاً جديداً بعيداً كل البعد عن ماهو مألوف لدى المجتمع بحيث اصبح العلماء والمثقفين ( من ادباء وشعراء وكتاب وغيرهم ) واساتذة جامعات يشعرون بالغربة داخل بلدهم خاصةً بعد ان استلم زمام الامور في البلد شلة من المتخلفين والاميين والحمقى والسراق والاغبياء وقطاع الطرق والشواذ والمنحطين اخلاقيا والعملاء وعمدوا على زرع الفساد وبكل اشكاله في البلد ، فكيف لمثقفي وعلماء البلد ان يتعايشوا مع هذا الجو البائس والمفعم بالتخلف والغباء والحمقى .

لذا فعندما لا تجد من يفهمك من حولك فستكون العزلة رغم وحشيتها افضل من ذلك بكثير . فالعزلة هنا اصبحت دواءً شافياً  في هذه الحالة ، لحين تجاوز مشاكل مجتمعنا ، ونحن نعلم جيداً أن الوعي والادراك المبكر للانسان في ظل هكذا مجتمع يصبح لعنة مزمنة عليه كونه لا يستطيع ان يتعايش مع اللاوعي واللامنطق والتخلف المخيف السائد في العراق .

انا أتألم من ما يجري في عراقنا الحبيب  أتألم ونحن نعيش في زمن قل فيه الرجال الاوفياء والاحباب والشرفاء ، واصبح الكذب والغدر والنفاق اسباب للبقاء وجني الارباح ، هذا اذا علمنا ان الشخص الصادق والامين والحريص على مبادئه لا يستطيع ان يجاري في صراعه مع الكذابين والمنافقين والانتهازيين الافاقين والمتلونين كون الصادق يكون ملتزم بالحقيقة وبما آمن به بينما الشخص الكاذب يمكنه ان يقول ما يشاء .

هذا ما جعلني وآخرين كثيرين من علماء البلد ومثقفيه ان ينعزلوا ويختلوا مع انفسهم ولفترة وجيزة حتى يتمكنوا من فهم وادراك ما يدور من حولنا في هذا العالم الظالم اللاانساني وايجاد الحلول التي تنقذ بلدنا وامتنا .