اصبح كل شيء بالمقلوب أ. د. محمد طاقة

يتفق معي الجميع  ، ان العالم اليوم يعيش

مرحلة خطيرة جدا  ، من الممكن وصفها بأنها مرحلة اللاتوازن التي اختلطت فيها الالوان والاشكال وتاهت في طياتها الابعاد الملموسة وغير الملموسة بحيث يصعب على المرء ان يحدد مساراتها وآفاقها .

انها مرحلة اللامعقول واللامنطق ، بحيث اصبح فيها المنطق مرفوضا والمعقول مستبعدا بينما صار المتمسك بالحقيقة والحق كافرا والمتشبث بالعادات والتقاليد القومية والدينية والتراثية والوطنية منبوذا ، بل هو خارج اطار حركة التاريخ ، اذ اصبح المنطق والمعقول هو الاستثناء والعكس هو القاعدة إذن هي مرحلة الجنون الانساني ، المرحلة التي ستقود البشرية الى ( البعد  الثامن ) البعد الذي لا اعرف عنه شيئا ولا اريد ان اتصوره انه البعد الغير مطروق وذلك لان النظريات والقوانين الطبيعية والكيمياوية والفيزيائية لا تتعامل ولا تتماشى مع فوضى اللامعقول واللامنطقية الفكرية الهائلة التي خلفتها طبيعة التطورات التي حدثت في المنظومة الرأسمالية والتي تبنت البراغماتية في سياقات عملها ونموذجها العولمي للهيمنة ولاستخدام المنهج الميكافيلي في تحقيق اهدافها .

لا ريب في ان جميع النظريات والقوانين تتعامل مع حركة الاشياء وفق منطق جدلي معروف ، كون العقل البشري يتعامل مع الحياة وفق قوانينها وطبيعتها واشكالها والوانها ومن ثم يعطي تفسيرات منطقية لحركة التاريخ ، ولكن كيف يكون الحال عندما يصبح كل شيء بالمقلوب ؟

فالذي يدافع عن ارضه ووطنه المحتل من قبل الاجنبي يطلق عليه لفظ ( ارهابي ) والمحتل العسكري يصبح انسانيا محبا للسلام حد المطالبة بجائزة نوبل للسلام

كما هو الحال في فلسطين العربية .

اما الذي يأتي عبر المحيطات ويقطع آلاف

الاميال لاحتلال العراق ويأتي بجيوشه ويدمر

البناء المادي للعراق وينهب ممتلكاته وثرواته ويقتل ابناء شعبه وبطرق بربرية

ويوصف من قبل وسائل الاعلام العالمية

باعتباره ديمقراطيا وانسانيا ويعمل من اجل

مصلحة الشعب العراقي ومن اجل تحرير العراق من الدكتاتورية ، لاحظوا اختلاط المعايير حيث ان الذي يهاجم العراق ويغزوه  بدون موافقة مجلس الامن وخارج الشرعية الدولية وبحجج كاذبة كامتلاك العراق اسلحة الدمار الشامل ، وبواعث  

سياسية واقتصادية معروفة ، فهذا الجيش يسمى جيش تحرير وليس جيش احتلال .

والشيء نفسه فعلوه مع فلسطين العربية

عام (١٩٤٨) وهجروا شعبه ودمروا حضارته

واستولوا على املاكه واليوم يفعلون الشيء نفسه مع غزة البطلة بأهلها ومقاتليها الشجعان وبحجة التخلص من حماس ، وهل التخلص من حماس يتطلب محاصرة المدينة وقطع عنها الماء والكهرباء والغذاء والاتصالات ، اليس ذلك يقع ضمن اطار الابادة الجماعية ويتعمدون قتل النساء والاطفال والشيوخ وباساليب وحشية ولا انسانية ، فهؤلاء فقدوا كل شيء انساني ووصلوا الى الدرك الاسفل ، ودمروا كل القيم الانسانية وتجاوزوا ( حتى القيم الحيوانية ) .

ويفعلون كل ذلك باسم الديمقراطية وحقوق الانسان ، ( وحقهم في الدفاع عن النفس ) ، وبدعم من المنظومة الراسمالية وعلى رأسها امريكا ، ففي اي عالم نعيش نحن ؟ فعلا عالم اللامعقول واللامنطق ، عالم الذي يقول فيه الحق والصدق فهو كذاب ، والكذاب الذي يستخدم وسائل الاعلام لتغطية كذبه ودجله وتلفيقاته وتضليله ويعمل على غسل ادمغة الشعوب

لتمرير اهدافه في الهيمنة يكون صادقا .

عالم يحاصر فيه شعبنا في غزة ولاكثر من (١٧) سنة ، ويقتل من نسائه واطفاله وشيوخه كل يوم بالمئات ، وتدعمه اكثرية حكومات العالم ( ومنها حكومة الاحتلال في العراق ) وببواعث مختلفة يكون هذا العالم ديمقراطيا وانسانيا ومقبولا لدى الاكثرية !

ويبررون كل ذلك كون ( للكيان الصهيوني حق الدفاع عن نفسه ) ، ولكن اليس من حق الشعب الفلسطيني ان يقاتل من اجل تحرير بلده المغتصب ويدافع عن نفسه وعن شعبه وعن وطنه ، فكيف تكون اذن ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين ، ووصل الامر بالاعلام الامريكي والغربي من اطلاق صفة الارهاب على المقاومين الفلسطينيين الابطال ، اليس هذا المقلوب بعينه ؟

ويتفق معي كل منصف ان انفراد امريكا بالعالم يعني بدء عالم تسوده شريعة الغاب .شريعة الاقوى لان امريكا هي الآمر الناهي وكل من يخالفها يجب ان يقضى عليه وينعت بأسوء النعوت ، وكما تشتهي المصالح الامريكية ، ومن خلال هيمنتها على رأس المال والمعلومات ووسائل الاتصال الضخمة . لقد اصبحت امريكا قادرة على تغيير المفاهيم والصور المرسومة بأذهان

البشرية كما تشاء فتجعل من الاسود ابيضا

ومن الحق باطلا ومن الصدق كذبا ، ومن الاحتلال تحريرا ومن الديمقراطية دكتاتورية

يتفق معي الجميع ان امريكا مهما فعلت وستفعل من اجل تغيير ما موجود من صور والوان واشكال في ذاكرة الانسانية لا يمكن تغييرها ، كونها طبعت كرسوم واضحة واصيلة ودقيقة في عقول الانسانية عبر اجيال ووفق قوانينها الطبيعية ، ومهما حدث عليها من تشويه وتزوير وتغيير وتزييف فلا يمكن لاي قوة ان تمحي قوة التاريخ وعادات وتقاليد الامم ، بل لايمكن

ان تحور المفاهيم الانسانية الاصيلة العريقة أننا أمام مرحلة خطيرة حقا ، ولكن الشعوب ستتجاوزها بشجاعة وستبقى فلسطين عربية .