دكتاتورية الشعوب ..
أ. د. محمد طاقة
لقد كان المؤتمر الصهيوني الاول بمثابت المؤتمر التأسيسي للمنظمة الصهيونية ، وعقد بزعامة (تيودور هرتزل) في مدينة بازل بسويسرا يوم ٢٩/ا غسطس/١٨٩٧ بعد ان شعر هيرتزل باهمية العمل على اقامة وطن قومي لليهود ويكون اما في فلسطين او الارجنتين او اوغندا ، وكان الهدف المحوري لهذا المشروع الصهيوني هو قيام دولة لليهود ، وصدر عن هذا المؤتمر توصيات متعددة اهمها ، كيفية الهيمنة على العالم ، والدعوة الى السيطرة على راس المال والاعلام وتشكيل لوبي صهيوني يؤثر على القرارات السياسية في الولايات المتحدة الامريكية واوربا وكندا وغيرها ، ومنذ عام (١٨٩٧) والى يومنا هذا تمكنت الصهيونية العالمية من تحقيق الكثير من اهدافها واهمها سلب فلسطين من اهلها ، و تشكيل مؤسسات خطيرة اعلامية ومخابراتية وتمكنت من الهيمنة على جميع المرافق الحيوية للولايات المتحدة الامريكية واصبحت امريكا دمية تحركها الصهيونية وتوجهها كما تريد ، وذلك من خلال مد نفوذها الراسمالي والاعلامي في جميع مرافق الحياة في امريكا حتى تمكنت من السيطرة على العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ، و اصبحت تتحكم بكل شيء ، فهي تمتلك شركات صناعة الاسلحة والادوية والسيارات والطائرات وسكك الحديد والمواصلات ووسائل التواصل الاجتماعي والهيمنة على مصادر الطاقة والتطور العلمي والتقني ، والاخطر من ذلك كله هو سيطرتها على وسائل الاعلام من خلال (امبراطورية روبرت مردوخ) والذي لعب دورا كبيرا في غسل ادمغة شعوب العالم وعلى وجه الخصوص شعوب اوربا وامريكا وبقية الدول التابعة لها ، حتى وصل الامر بنا نعتبر ان العالم يعيش في ظل نظام دكتاتورية راس المال ..
من المعلوم ان الدكتاتوريات في شتى انحاء العالم تأخذ اشكالاً مختلفة بحسب ثقافة كل مجتمع والسياق السياسي لكل دولة ، فالديكتاتورية عبارة عن نظام سياسي يمارس فيه (الزعيم او الحكومة او الحزب او اي مجموعة) السلطة بشكل غير مقيد ، دون مراعاة للفصل بين السلطات الثلاث واحترام حقوق الانسان والحريات الاساسية للفرد ..
تتأثر دكتاتوريات الشعوب بعوامل متعددة بما في ذلك التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للبلدان التي تعاني منها ، ويكون النظام الدكتاتوري غالباً نتيجة لتراكم السلطة في يد فرد أو جماعة صغيرة من الناس والذين يمارسون القمع السياسي والاجتماعي وبشكل صارم ويتمتعون بسلطة مركزية قوية ومركزية شديدة دون وجود نظام يفصل بين سلطة القضاء والتشريع والتنفيذ ، وكذلك التحكم في وسائل الاعلام بحيث يتم تضييق الخناق على حرية الصحافة ووسائل الاعلام الاخرى والتحكم بالاخبار التي يرغب الحاكم بنشرها ، واستخدام القوة والترهيب لتثبيت النظام وقمع اي معارضة ، كما يتميز هذا النظام بالفساد السياسي والذي يكون منتشراً بشكل كبير في الدول التي تعاني من الدكتاتورية ..
مما تقدم يتضح لنا ان النظام السياسي الدولي الذي نعيشه اليوم هو نظام دكتاتورية راس المال ، حيث وجود فئة تعد على اصابع اليد تمتلك راس المال وتستحوذ على اكثرية الشركات العملاقة في العالم وشركات متعددة الجنسيات وتمتلك النفوذ السياسي والتحكم بجميع القرارات الدولية والتي تخدم مصالحها الذاتية ومتجاوزة بذلك جميع مصالح شعوب العالم ، هذه الطبقة العالمية التي تتحكم في مصير الشعوب وتستغل ثرواتها وامكاناتها المادية والبشرية ، هذا النظام الدولي الذي (تنفرد فيه امريكا) والذي نعيشه اليوم القائم على الظلم والاستبداد والفساد وسلب الثروات والقائم على الاستغلال والهيمنة واستعباد شعوب العالم ، هذا النظام الدولي الذي يتبنى شعارات زائفة كالديمقراطية وحقوق الانسان وهو بعيد كل البعد عنها، والذي يعتمد الكذب والتضليل والمراوغة كي يمرر سياساته الاستعمارية والارهابية ويخدع شعوب العالم مستغلاً التخلف والفقر والحرمان الذي تعاني منه اكثرية شعوب العالم وعلى وجه الخصوص دول العالم الثالث ..
في السنوات الاخيرة ، شهد العالم تطوراً تكنولوجياً هائلاً ، مما ادى الى ثورة رقمية وتقدم في مجال الذكاء الاصطناعي ، هذا التحول التكنولوجي له تأثيرات عميقة على النظام الدولي وعلاقات الانتاج الحالية ، فقد ادى التطور التكنولوجي الى تغيرات هائلة في طريقة تصنيع المنتجات وتقديم الخدمات ، بحيث اصبحت الاتمتة والذكاء الاصطناعي جزءاً اساسياً من العمليات الانتاجية ..
ان هذه التقنيات الجديدة تؤثر ايضاً على القوى الاقتصادية والسياسية في العالم ، فالدول والشركات التي تتمتع بقدرات تكنولوجية متقدمة تحظى بميزة تنافسية كبيرة ، مما يعزز مكانتها في النظام العالمي ومع ذلك يثير هذا التحول التكنولوجي ايضاً تحديات جديدة مثل التوظيف والقضايا الاخلاقية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والتحكم بالبيانات الضخمة لتجاوز تحديات التغيير التكنولوجي وضمان استفادة الجميع من فوائده لذا يتعين على المجتمع الدولي العمل بجدية لتجنب الانزلاق نحو (حرب عالمية ثالثة) فيجب على الدول التعاون على مستوى العالم لوضع قواعد وأطر قانونية تنظم استخدام التكنولوجيا وتحدد حقوق الفرد والدول في هذا السياق ، ولكن ان القوى الدولية والمتنفذة والمهيمنة على راس المال والاعلام وتمتلك القوة العسكرية الهائلة هي نفسها التي تستحوذ على الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي والتي تستخدمه لمصالحها الذاتية ولاجل السيطرة على العالم وسوف لن تستخدمه لمصلحة الشعوب وعلى هذا الاساس فإن الصراع سيزداد بشكل غير مسبوق وذلك للآثار الاقتصادية الهائلة الذي يحدثها الذكاء الاصطناعي كونه سيغير الهياكل الاقتصادية العالمية وبشكل خاص هيكلية العمالة ، لذا فإن دور الشعوب في عملية التغيير لا يمكن تجاهله على الاطلاق لذا يجب ان تكون الشعوب اكثر فاعلية في صياغة السياسات التي تؤثر على حياتهم ومستقبلهم ، وسيكون للشعوب كلمتها الفاصلة لعملية تغيير العلاقات الانتاجية القائمة الحالية والتي لا تحاكي عملية التطور التكنولوجي فثورة الشعوب قادمة لا محال ، وسيتم بناء نظاماً دولياً جديداً يكون للشعوب الدور الحاسم في تشكيله ، وستكون دكتاتورية الشعوب هي التي تحقق التقدم المستدام والحقيقي بحيث يخدم الجميع ويتم تشكيل هذا النظام على انقاض نظام دكتاتورية راس المال ..
وتأكيدًا الى ما ذهبنا اليه فإن احداث غزة وما قامت به المقاومة الفلسطينية من عمل عسكري جبار ، رغم الخسائر الفادحة بالارواح وتدمير غزة ، الا ان اعظم انجاز تم تحقيقه على المستوى العالمي ، هو صحوة الشعوب الاوربية والامريكية والتي كانت خاضعة للاعلام الصهيوني طيلة اكثر من مئة سنة ، حيث اكتشفت هذه الشعوب حجم الكذب والتضليل الذي كانت تمارسه وسائل الاعلام في تشويه الحقائق ، وعلى هذا الاساس فكلما زاد وعي الشعوب والوصول الى الحقيقة وتكتشف هذه الشعوب حقيقة ما جرى وما يجري في هذا العالم ، سوف تبدأ عملية التغيير الجذري والحقيقي من اجل خلق نظاماً دولياً جديداً يؤمن للجميع الامن والامان وتحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية وضمان حقوق الانسان ..